التذكير بالماضي: البهلوان المتحرك شاهد على جيل من الإبداع

في زمن لم تكن فيه الشاشات قد غزت كل تفاصيل حياتنا، ولم تكن التكنولوجيا قد غطّت على أحاسيسنا البسيطة، كانت المدرسة المغربية، عبر موادها الفنية والتربوية، تنسج داخل التلميذ حسًا إبداعيًا ووجدانيًا قلّ نظيره. من بين هذه اللحظات التي لا تُنسى، يبرز مشهد مألوف لكل من درس في جيل التسعينات وبداية الألفية: صنع بهلوان متحرك بورق مقوى.


قد تبدو هذه الصورة – كما في كتاب التربية التشكيلية – بسيطةً للوهلة الأولى: ألوان زاهية، بهلوان بقبعة صفراء ووجه ضاحك، أطراف مقطعة وجاهزة للربط بخيط أو دبوس. لكنها في الحقيقة، تمثل قطعة من ذاكرة مدرسية جماعية، مليئة بالاجتهاد، والإبداع، والمتعة، والتعلم من خلال اليد والعين.


لقد كان درس "الحركات" في التربية الفنية فرصة ذهبية لكل تلميذ ليُخرج فنانًا صغيرًا يختبئ بداخله. لم تكن المهارة تقتصر على القص واللصق فقط، بل كانت تشمل التركيز، تنسيق الألوان، فهم المفاصل، وتصور الحركة قبل تنفيذها. كل ذلك دون الحاجة إلى أدوات رقمية أو شاشات تفاعلية، فقط مقص، غراء، خيوط وبعض الحماس.


هذا البهلوان لم يكن مجرد لعبة، بل كان وسيلة تربوية قوية لنقل المفاهيم بطريقة تطبيقية: كيف تتحرك الأجسام؟ كيف تُجمّع الأجزاء لتشكيل كائن متكامل؟ وكيف يمكن للخيال أن يُضفي حياةً على ورقة جامدة؟ هذه المهارات البسيطة صنعت فرقًا كبيرًا في بناء شخصية متوازنة، تجمع بين الذكاء الحركي والذوق الفني.


جيلٌ بأكمله درس هذا النموذج وتعلم منه، جيلٌ لم تكن المتعة فيه تأتي من الضغط على شاشة، بل من إنجاز حقيقي يُعلّق على الجدران، أو يُعرض في ركن القسم، وربما يُهدى للوالدين بفخر. جيلٌ أحب المدرسة لأنها كانت تمنحه فرصة ليكون مبدعًا، لا مجرد متلقي.


اليوم، حين نعود إلى هذه الصورة، فإننا لا نراها مجرد رسم تعليمي، بل نراها رمزًا لذاكرة فنية مدرسية خالدة. نراها تحيةً لجيل علّمته البساطة كيف يبتكر، وجعلت منه التربية الفنية إنسانًا يقدّر التفاصيل، ويصنع الجمال من أدوات متواضعة.


فالتذكير بالماضي، من خلال مشاهد مثل البهلوان المتحرك، ليس حنينًا عابرًا، بل هو إحياء لقيم تربوية وجمالية تستحق أن تُعاد إلى مدارسنا، وتُروى لأبنائنا، لتبقى الذاكرة حيّة، نابضة، ملهمة.

📣 شارك المقال: فيسبوك واتساب تويتر
⬅️ العودة إلى المقالات العودة إلى الصفحة الرئيسية