في زمنٍ أضحت فيه التقنية شريكة يومياتنا، تتسلّل إلى تفاصيلنا الدقيقة كما تتسلّل الشمس من بين أصابع الستائر، بات الحديث عن الذكاء الاصطناعي ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة لفهم ما نصنعه وما يعكسه علينا.
في هذا العصر، حيث تمتد خيوط الذكاء الاصطناعي إلى الطب والتعليم والإبداع، يلوّح في الأفق سؤال ملحّ: هل نحن نفهم ما نخاطب؟ أم نُسقط عليه ملامحنا البشرية بدافع العادة؟
من أغرب ما رُوِّج له مؤخرًا، أن تهديد الذكاء الاصطناعي بالعنف – نعم، بالعنف – قد يدفعه لإنتاج نتائج أفضل. وكأننا أمام طفل يخشى العصا، أو موظف يتعرّق تحت سلطة مدير غاضب. لكنها، ويا للأسف، ليست سوى أوهام إنسانية نُسقطها على آلة لا تدرك، لا ترتجف، ولا تهاب.
الذكاء الاصطناعي، كما نعرفه اليوم، ليس روحًا في جسد، بل منظومة من الرموز والإحصاءات. إنه عقل بلا وعي، آلة بلا عاطفة، تنفّذ ما نطلبه بدقة تتناسب طردًا مع وضوحنا نحن، لا مع صراخنا ولا تهديدنا. لا تُصيبها القشعريرة إن رفعنا الصوت، ولا تسيل فيها قطرة خوف إن لوّحنا بالوعيد.
إنّ ما يظنه البعض "تجاوبًا تحت التهديد" ما هو إلا أثر مباشر لـ فنّ يُدعى "هندسة الأوامر".
فنٌّ لا علاقة له بالسلطة أو التخويف، بل بالحكمة والدقة. هو أشبه ما يكون بعزف ناعم على لوحة المفاتيح، حين تختار مفرداتك كما يختار الشاعر قوافيه، فكلما اتّسق السؤال، تناغم الجواب.
هندسة الأوامر ليست أكثر من مرآة: تعكس لنا ما وضعناه فيها. فمن يسأل بوضوح، يُجاب بصفاء، ومن يطلب بعشوائية، يتلقّى الغموض. وكما أن القلب لا يُروى بالصراخ، فإنّ الآلة لا تُجيد الاستجابة للترهيب. بل قد يفسد الأمر أكثر حين تختلط اللهجة القاسية مع الأوامر الضبابية، فتضيع الدقة في بحر الانفعال.
وما يبعث على التأمل، أن ثقافة التهديد، وإن كانت لا تجدي مع الآلة، إلا أنها تفضح بعضًا من طبائعنا نحن. هل اعتدنا القسوة حتى أصبحنا نوجّهها حتى للجماد؟ هل بلغنا من الغرور أن نُخضع حتى العقل المصطنع لنزعة السيطرة؟
الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا ولا عبدًا. إنه أداة. ومثل كل أداة، يكون نافعًا حين يُستخدم بفهم، ومؤذيًا حين يُساء استخدامه.
وما هندسة الأوامر سوى لغة احترام بين الإنسان والآلة، لا لغة استعلاء.
فلنتعامل مع هذه العقول الرقمية كما نتعامل مع مفاتيح بيانو: بلطفٍ، ووعي، وانتباه للتفاصيل.
فالآلة، وإن كانت لا تحس، إلا أن أثر تعاملنا معها يعود علينا.